دينا مندور: هجرة الكُتاب العرب شكّلت معالم الكتابة «ما بعد الاستشراقية»

تُعدّ المترجمة المصرية دينا مندور من أبرز رائدات ترجمة الأدب الفرنسي إلى العربية، إذ أسهمت في نقل أعمال أدبية معاصرة وكلاسيكية بأسلوب يراعي حساسية اللغة ورسالة الكاتب الأصلي. حصلت دينا مندور على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون في فرنسا، حيث تناولت رسالتها البحثية موضوع «الترجمة العربية للرواية الفرنسية ما بعد الاستشراقية»؛ مصطلح اخترعته لتحديد مرحلة جديدة في الكتابة التي تلت ظهور كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد عام 1978. وفي لقاء حصري تناولت فيه إشكاليات الترجمة وهمومها الأدبية والأكاديمية، أوضحت عدة نقاط مهمة حول هذا الموضوع وما يقترن به من تجليات في أعمال الكُتاب العرب الذين هاجروا إلى الغرب.


الكتابة ما بعد الاستشراق: فصل جديد في الأدب

أوضحت دينا مندور أن مصطلح «الكتابة ما بعد الاستشراقية» يشير إلى فترة امتدت على مدى 30 عامًا، بعد الكتابات الاستشراقية الكلاسيكية التي كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بآليات الاستعمار والسياسات التي وُصمت بها. فقد شكّل كتاب إدوارد سعيد صدمة للغرب وأحدث موجة نقدية شديدة، ما دفع إلى إعادة النظر في العلاقة بين الكتابة عن الشرق وبين الأطر الاستشراقية القديمة.

في رسالتها للدكتوراه التي حملت عنوان «الترجمة العربية للرواية الفرنسية ما بعد الاستشراقية»، تناولت مندور هذه الظاهرة في سياق أدبي واجتماعي، حيث ركزت على أعمال لكتاب مثل أمين معلوف، وماتياس إينار، وجيلبرت سينويه. وقدمت دراسة شاملة شملت ثلاثة فصول:

  • الفصل الأول: تناولت فيه أعمال كُتاب ذاع صيتهم من حيث تقديم صور جديدة عن الشرق، مع تسليط الضوء على روايات مثل «ليون الأفريقي»، و«بوصلة»، و«المصرية».
  • الفصل الثاني: كان محور الفصل علم اجتماع الترجمة، حيث بحثت فيه في عوامل وصول النص الأصلي إلى الجمهور العربي، وعلاقة الناشرين والمترجمين بعملية نقل النصوص.
  • الفصل الثالث: تناول إشكاليات الترجمة نفسها، وكيف يؤثر التعليم والتكوين الفكري للمترجم على اختياراته اللغوية وتعامله مع النصوص الأصلية.

هجرة الكُتاب العرب وتشكيل معالم الكتابة

أكدت دينا مندور أن هجرة الكُتاب العرب إلى الغرب ساهمت في صياغة نموذج أدبي جديد، حيث أصبح للكتاب عرب جذور شرقية متجذرة في واقعهم الثقافي، إلا أنهم يعملون ضمن إطار أدبي غربي. وقد انعكس هذا على أعمال مثل تلك الخاصة بأمين معلوف، الذي تميز بطرح مفهوم «هُوية واحدة وانتماءات عدة»، وأيضًا في أعمال ماتياس إينار وسينويه وطاهر بن جلون وآسي جبار وروبير سوليه.

هذا التداخل بين الهجرة والكتابة أعاد صياغة صورة الشرق في الأدب؛ فقد اختفت الحدود الضيقة التي كانت تُرسم في سياق الاستشراق الكلاسيكي، لتظهر صورة إنسانية أكثر شمولية، تعكس واقع الهجرة وتعدد الهوية. كما أن موضوعات مثل الربيع العربي وقضايا الهجرة الشرعية وغير الشرعية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الرواية المعاصرة.


تفاعل المترجمة مع موضوعات المرأة والأسلوب الأدبي

تطرق الحوار مع دينا مندور إلى جانب حساس في اختيارها للأعمال المترجمة، حيث أوضحت ميلها للموضوعات التي تتفاعل مع قضايا المرأة. فقد كانت أولى أعمالها ترجمة رواية «فاديت الصغيرة» للكاتبة جورج صاند، التي تناولت قصة فتاة مراهقة تكافح قيود مجتمع مغلق، وكذلك ترجمت «صرخة النورس»، السيرة الذاتية للممثلة الصمّاء إيمانويل لابوري، التي طالبت بحقوق الصُم وأطلقت المسرح المرئي العالمي.

كما أشارت إلى ترجمتها لكتاب «المرأة الثالثة… ديمومة الأنثوي وثورته» للفيلسوف جيل ليبوفيتسكي، الذي طرح رؤية ثلاثية لمراحل المرأة في التاريخ، مما يعكس ارتباطًا وثيقًا بين الأدب والفكر النقدي المتعلق بمسائل الهوية والتمكين.


التحديات المهنية في مجال الترجمة

لا تخفي دينا مندور التحديات التي تواجه الكتاب المترجمين في مصر؛ إذ أشارت إلى مشاكل تتعلق بتكوين المترجمين والميزانيات المرصودة لشراء الحقوق الأدبية وإعادة طباعتها. كما تطرقت إلى مسألة خريطة توزيع الإصدارات، حيث ترى ضرورة توسيع قنوات التوزيع لتصل الإصدارات المترجمة إلى أوسع جمهور ممكن، بعيدًا عن اعتمادها الحصري على منافذ المركز وبعض الجامعات ومعارض الكتاب.


خلاصة الحوار

يُظهر الحوار مع دينا مندور عمق التجربة الأدبية والأكاديمية في مجال الترجمة، إذ تمكنت من رسم معالم جديدة للكتابة «ما بعد الاستشراقية» التي تمثل تحولًا في كيفية تناول الشرق في الأدب. ما يميز عملها ليس فقط الدقة في نقل النصوص، بل وأيضًا حرصها على إضفاء روح الكاتب الأصلي مع مراعاة الذائقة والقارئ العربي.

إن هذا النهج المتميز في الترجمة يؤكد على أهمية الحوار الثقافي بين الحضارات وتبادل الخبرات الفكرية، مما يساهم في إثراء المكتبة العربية بترجمات تجمع بين الأصالة والحداثة.


المصدر: الشرق الأوسط

Scroll to Top